عنوان: في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية: د. عادل بن خليفة بالكَحْلة
حلقة الوصل : في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية: د. عادل بن خليفة بالكَحْلة
في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية: د. عادل بن خليفة بالكَحْلة
في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية:
لم تكنْ الدولة العثمانية «خلافة» ولم يكُنْ عبد الحميد قائدنا في فلسطين
د. عادل بن خليفة بالكَحْلة
(باحث في الأنثروبولوجيا، الجامعة التونسية)
كان ينبغي أن نُبْقي على الاتحاد المُسْلم الذي عاصمته إسطمبول، مُصْلحِين إياه، حتى يكون أقرب إلى القوّة الحقيقية (مقارنةً ببقية قوى العالَم)، وأقرب إلى العَدَالة بين الشعوب، وبين الطبقات والجنسيْن، وأنْ نرْتقي به إلى أن يُصبح خِلافة لرسول الله في دستورية حُكمه (دستوره كان اسمهُ «الصحيفة») والوِلايَة الجماعية لدولته (وجود «نقباء» و«نقيبات» منتخَبين وشورَية الحكم، وسعيها للقضاء على الفقر (حسب الفصْل7 من دستورها).
فكيف لم تكن الدولة العثمانية «خلافة»؟
وكيف لم يكن السلطان الوراثي عبد الحميد الثاني قائدًا في حماية فلسطين من الاحتلال؟
1. لم تكن الدولة العثمانية «خلافة»:
إنها لم تخلف النبي في دستوريّته (صحيفة المدينة)، ولا في إصراره على » الولاية المشتركة« (بلغة القرآن الكريم) أو »الديموس كراطوس« (بلغة الإغريق): ﴿ والمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ﴾ (سورة التوبة، الآية71) ولا في مساواته المَعاشية، رغم أن الخالف فعلا يخلف المخلوف في صفاته الرئيسية، بالأقل. فكانت دوْلة بدون دستور، قائمة على الولاية الفردانية والعائلية والعرقية والتفاوت المَعاشي الفاحش. ولم تكن تؤمن بوحدة إسلامية إلا إذا اعتبرنا قتل صاحب الدولة المصرية – السورية (السلطان المملوكي) دون ذنب جناه تجاه الملك العثماني – التركي وإسقاطَ دولته أمرًا شرعيًّا. فلم تكن دولة بني عثمان تحمل مشروعية نبوية (خلافة بالمعنى الحقيقي)، ولا مشروعية أخلاقية (قتلُ حُكّام الدول الأخرى)، ولا مشروعية القانون الدولي آنئذ.
يصف المؤرخ ابن إياس الحنفي، شاهد العِيان، المجزرة العثمانية بعاصمة تلك الدولة عام 932هـ/ 1517م بقيادة ابن عثمان السلطان سليم شاه وتحت عينيه و أوامره. فهو يروي أنّ احتلال القاهرة الذي كان في ثلاثة أيام قاسيًا جدًّا: «ابن عثمان انتهك حرمة مصر، وما خرج منها حتى غنم أموالها، وقتل أبطالها، ويتُم أطفالها، وأسر رجالها، وبدد أحوالها، وأظهر أهوالها... وأخذ منها من كل شيء أحسنه، ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده من قبله أبدًا»، مُطلقًا أيدي جنوده في المدينة وأهلها. وهو يصفه بأنه ليس «على مِثْلِ نظام الملوك السالفة»، فهو بلا قانون، وأنه «سيء الخُلق سفّاكٌ للدماء، شديد الغضب، لا يُراجِع في القول»، «وكان سكْرانًا» في سفره البحري من مصر إلى إسطنبول، وكان لا يصلّي صلاة الجمعة إلا قليلا، وقد غدر بمن أعطاهم الأمان بعد البصق على وجوههم.
وكانت الجثث مرميّة في كل مكان، حسب هذا المؤرخ شاهِد العِيان. وأُجبِرَ بعض القُضاة على تزوير مدّة عِدّة بعض زوجات الضُباط المهزومين لتزويجهن من بعض المنتصرين. ولم يكتفوا بحَزِّ رُؤوس الجنود والضبّاط والسَّاسة المنهزمين بل حَزُّوا رُؤوس الكثير من المارّة، وأجبروا بعضهم على دفع مقابل مالي لكي ينفوا عنهم تهمة الولاء للسلطة المنهزمة، ناشرين رُهَابًا شديدًا ربّما لم تتخلص السجيّة المصرية من كل آثاره اليوم. وقد رُسِّخ ذلك في اللاوعي الجَمْعِي الأناضولي حتى رأينا أردوغان يتحالف مع الذين يحُزّون الرؤوس ويغتصبون مِن السلفية الجهادية.
لقد كان الجنود العثمانيون، حسب شاهد العِيان، يدوسون المصاحف القرآنية التي كانت حول السلطان على أرضية القتال بأرْجل خيولهم، وفُقِدَ المصحف العثماني في تلك الفوضى. وكانوا «يتجاهرون بأنواع المعاصي والفسوق، فلا يصومون شهر رمضان ويشربون الخمر والبوزة، ويستعملون فيه الحشيش والسخيب، ويفعلون الفاحشة بالصبيان المُرْد في شهر رمضان».
ومِنْ أوَّل ما فعلوه، علاوةً على ذبح المماليك وترهيب الأهالى، أنهم قاموا بإخراج السجناء من سجون القاهرة، لِيشارك المجرمون جندَ العثمانيين في الفوضى. وقد قتل الجنود العثمانيون 10 آلاف من عامة النّاس في يوم واحد، ونهبوا بيوت الناس وسرقوا كل ما تطاله أيديهم لثلاثة أيام متوالية، من رخيص وغالِ، ومن الأغنياء والفقراء، حتى الرخام الفاخر الملون، والأبواب الحديدية المسبوكة. ولم تُراعَ حرمة أوقاف المسلمين ولا مدارس العلوم الدينية، وحتى مسجد السيدة نفيسة نهبوا قناديله النفيسة وشموع إضاءته، وذبحوا المماليك بحَرَمِه. وكانت مشاهد الشنق فظيعة. كما كتب ابن إياس أنه أُشيع دخول العثمانية لضريح الإمام الشافعى ومقام الإمام الليث بن سعد بالقرافة. وقد سلب ابن عثمان السلطان سليم الأول شارات الخلافة العبّاسيّة التى كانت بمصر، علاوةً على سرقته الأطنان من الذهب والفضة.
لقد ربط خيوله بجوار جامع السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فاتح القدس، «حتى صار روث الخيل أكوامًا على الأرض. وأكثر ما نُهب من القلعة هو رخامها النفيس والذى وضع فى صناديق خشبية وحُمل إلى المراكب استعدادًا لنقله إلى إسطنبول»، فضلاً عن رخام القصر الكبير السلطانى المفروش بالرخام المجلوب من شتى الأقطار.
وسحب الجند العثمانية الأعيانَ وبعض العامةَ من أبواب القاهرة، «ووضعوهم فى الحبال متوجهين بهم إلى القلعة، وهناك ربطوهم بالحبال فى رقابهم ليسحبوا المَكَاحل النحاس الكبار، وينزلوا بها إلى شاطئ النيل، ويضعوها فى المراكب». وسَخروا النّاس لاقتلاع الأعمدة الضخمة من القلعة.
وقد باع ابن عثمان سليم الأول الخيمة الكبيرة المصنوعة من القماش والمخصصة للاحتفال بالمولد النبوى الشريف، والتى صنعها السلطان قايتباى، لتجار مغاربة، وهي من أثمن الأشياء آنئذ. وكان التغيير الفجئي والإخساري للعُملة آنئذ مما جعل الحال المَعيشي بمصر وسوريا صعبًا جدًّا.
أن مصر بهذا الاحتلال خسرت بعض كنوزها وصُناعها المهرة، وبعض أرباب الحرف، والكثير من نفائس المخطوطات والمصاحف الشريفة. ولم يفتح مصر عنوةً بعد عَمْرو بن العاص إلا سليم شاه العثماني. ويرى ابن إياس أن الاحتلال العثماني للقاهرة لا يقلّ قَدرًا عن احتلال هولاكو لبغداد إن لم يكن أسوأ. ولقد تم إفقار مصر من جلّ ما تملك من رصيد ذهبي وإرث حضاري ومهندسين وصُنّاع وعلماء وعمّال مَهَرة، آقتيدوا مُهَانِين على السفن، وحتى المخايل ( الممثِل في خيال الظل) لم يَسْلم. وقد تقدمهم الخليفة العباسي الأخير، المتوكّل على الله محمد، وعائلته.
لقد تعامل العثمانيون مع الدولة المصرية- السورية، المملوكية، تعامل المحتل مع الأقطار المغلوبة، بل لا نحس أنه تعامل المسلم مع المسلم. ولم يكن الاحتلال العثماني للقاهرة أقل فداحة من الاحتلال المَغولي لبغداد. ولقد تسبب ترحيل أرباب الحرف والصناعات في توقف خمسين صناعة، وانهيار المركزية الحضارية المصرية في الاسلام.
وإذا كان مبدأ «الخلافة» العثمانية تدميريًّا وعدوانيًّا، فهو حامل إِمَّتِها طيلة وجودها، وطَبَع السجيّة المصرية بطابع التصاغر والانسحاق أمام السلطة وتملقها من أجل العيش.
2. دور عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876-1909):
ارتقى عبد الحميد الثاني العرش، وكان حِمَى دَوْلَتِه بين انتفاضاتٍ (البوسنة، بلغاريا...)، وقَضْمٍ روسيّ بيّن ضعف الدولة عن الدفاع عن نفسها، بينما احتلّت الإمبريالية الغربية جنوب اليمن وتونس (سنة1881) ومصر (سنة 1882).
لقد صادق السلطان على الدستور عام 1876، سنة اعتلائه العَرْش ، و وافق على وُجود مجلس نيابي، لكنّه سرعان ما عطَّل الدستور وحلَّ البرلمان عام 1878، وفي الآن نفسه لم يَدْعُ إلى انتخاباتٍ برلمانية أخرى.
أمّا الخزينة، فكانت ضعيفة جدًّا، مما جعل السلاطين يبحثون دائما على قروض من الدول الغربية، التي تستغلّ الفرصة لإنهاك الدولة العثمانية بفوائد ثقيلة.
كان خطاب السلطان عبد الحميد الثاني حول مقولة «الجامعة الإسلامية» خير معبّئ لمشروعيّةٍ جديدة، بَعْد أن اهتزت مشروعية الدولة العثمانية لدى رعاياها لتقصيرها في الدفاع والقضاء على الفقر، وغيرهما.
أصبحت فلسطين (أي ما يُسمّى «المملكة الأردنية» ومعها ما يُسمّى «فلسطين» اليوم) ذات إدارة مستقلة عن ولاية الشام بإسم «متصرفية القدس»، لتكون مُدَارة من المركز (إسطمبول) مباشرةً. فأيّ خطإٍ سنكتشفه في إدارة المتصرفية الفلسطينية، سنُحمِّلُهُ السلطان وإدارته المركزية.
بالاتفاق مع الدول الأوروبية، مَنحت الدولة العثمانية المساواة بين المسلمين، الأكثرية، والأقليّات الدينية، و«أصبح هؤلاء الرعايا يلجؤون إلى القناصل الأجانب في القدس ليكونوا تحت حماية دُولهم، وليصبحوا مواطنين أجانب يتمتعون بالامتيازات الأجنبية الممنوحة لهم».
ولما ظهر فرمان تَمَلُّك الأجانب عام 1876، تزايد تملك اليهود الأجانب في فلسطين، وغضّت «الخلافة» النظر عنهم، رغم أن يهوديّتهم في الحياة اليومية واضحة جدًّا.
أول موقف أصدره «الخليفة» عبد الحميد الثاني من الهجرة اليهودية عام 1882، بأنْ تَشترط على هؤلاء اليهود «الجدد» أن يتخذوا الجنسية العثمانية، إن أرادوا التملّك والاستقرار بحِمى دَولته، وفي مقابل ذلك يُعفيهم من الضرائب والخدمة العسكرية، وأن لا يتجاوز تجَمُّعهم 150 عائلة. وكان فرمانًا «ساذجًا»، إذ أنه شجع الهجرة اليهودية بَدَل إيقافها.
وأمام الاحتجاجات الفلسطينية التي وصلت حدّ العنف الجسدي تجاه اليهود «الجُدُد» عام 1886، أصدر «الخليفة» عبد الحميد الثاني فرمانات تُقيّد الزيارة اليهودية للقدس بثلاثة أشهر، وتناستْ «هجراتهم» و«زياراتهم» إلى بقية مدن فلسطين. ورغم سذاجة هذا «القرار» الحميدي، غضبت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا لأنه في نظرها «منافٍ لحقوق الإنسان». فتراجع «خليفة رسول الله»، عبد الحميد الثاني، وصرَّح أن «القرارات لن تطبّق إلا بحق المهاجرين بأعداد كبيرة وليس بحق الذين يكونون فرادى».
ولقد اجتهد الوالي رؤوف باشا (ثم أكرم باشا) في وضع العراقيل أمام المهاجرين من اليهود، مطالبًا «خليفة رسول الله» بأن تكون «فلسطين خارج حريّة الدخول والإقامة»، إلا أنّ «الخليفة» رفض طلبه كتابيًّا، مما جعله يعتقد أنّ «قرارات» «الخليفة» «هي التي سمحت لليهود بالاستيطان الدائم».
ورغم وعي «خليفة رسول الله» من خلال فرماناته بأن هدف الهجرة اليهودية تشكيل حكومة يهودية بأي اقتطاع على حَمَى الدولة العثمانية ليتسللوا منه إلى فلسطين، إلا أنه عرض على زعيم الحركة الصهيونية هرترل، «استيطان أي جزء من الدولة العثمانية عدا فلسطين».
أخفقت سياسة عبد الحميد الثاني في منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين «إذ تزايدت أعدادهم ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1882، وازدادت نسبة اليهود من 5% إلى 11% من مجموع السكان في فلسطين»، وليس في القدس وحدها، بل كل المدن الفلسطينية، مسرِّبةً الكثير من رؤوس الأموال الصهيونية. بل إن السلطان أصدر فرمانات لمصلحة بعض اليهود بحجّة أنهم سيمتلكون «مساحاتٍ محدودة»، ليس بإمكانها أن تضرّ.
ومن الغريب أن السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، اعترف «بوجود المستعمَرات» التي أسَّسَتْ قَبْل إعلانات المنع، «وهو ما سمح للبارون رُتْشيلد بتسجيل الأراضي التي اشتراها باسمه، وسمحت لليهود بشراء الأراضي في كل أنحاء سوريا». وكانت من سنوات تأسيس تلك المستعمرات: 1886، 1890، 1895. وذلك رغم أن امتلاك الأراضي كان فرمانيًّا تمامًا، تناولتها «تقارير مفصَّلة كان يبعث بها الولاة من فلسطين إلى الآستانة». وقد كانت لرُتْشيلد علاقات طيبة مع «الخليفة» وإدارته، ومن الأدلة على ذلك أن بنكه مدَّ دولة «الخلافة» بعدّة قروض.
ولقَدْ دامت مفاوضَات عبد الحميد الثاني مع زعيم الحركة الصهيوينة هرتزل 7 سنواتٍ كاملة (1896-1903)، بهدفٍ من الأوّل هو تأمين بعض القروض لخزينة خَاويَة (وهَلْ مَنْ يكون «خليفة» للرسول تكون خزينته خاوية؟!!)، وبهدفٍ من الثاني هو امتلاك كل فلسطين. وقد كانت رحلتان من رحلات هرتزل الخمس إلى الأستانة بنفقة السلطان نفسه. وكل هذه السنوات الطويلة، إمّا تكشف عن سَذاجة رجُلٍ لا يعرف قوّة الصهاينة الراكنة إلى مالهم وإلى قوّة الإمبريالية الداعمة لهم، وإمّا تكشف عن تواطُئٍ حَميدِيّ مَا بِسَببِ الضعف المالي الفادح. كِلاَ الأمريْن لا يمنحانه شرعيّة حكم دولة سياديًّا، ولا شرعية خلافة نبيّ كان عبقريّ دولة غير معهودة في التاريخ، ولا شرعية قيادة اتحادٍ مُسْلم «ائِتَمنَهُ»، بمعنى ما، على أراضٍ مقدَّسة. وهل للسلطان الحق- حسب الفقه السياسي حتى التقليدي وحتى فقه تقي الدين النبهاني- في التفاوض، حتى الشكلي مع عدوّ مُعْلن للوطن الإسلامي؟!! وهل له الحق في التفريط في سيادة اتحادٍ مسلم على أي كيلومِتر مربّع من حِمَاهُ؟!!
بدأت المفاوَضات بين السلطان والزعيم الصهيوني بموقف «مبدئي» من السلطان يوم 19/8/1896: «لا أستطيع أن أبيع لو قَدمًا واحدةً من البلاد لأنها ليس ملكًا لي، بل لشعبي. ليوفرْ اليهودُ ملياراتِهِمْ!». ولكنْ بَعْد 7 أيام فحسب (26/8/1896)، وافق السلطان على مقابلة هرتزل، ليدوم الماراطون التفاوضي «البيزنطي» 7 سنوات!! فإذا كان «خليفة رسول الله»، كما يدّعي، بهذا الوعي وبهذه الصلابة المَبْدئية، لماذا ضيّع وقته في مفاوضاتٍ طويلة طمَعًا في ملياراتِ إنقاذٍ صهيونية؟!! وهل إنْ فعل ذلك ملكٌ، أو «رئيسٌ»، مسلم اليوم، هل سيغفر له المسلمون أو يبرّرون فعله، ومنهم حزب «الخلافة»، حزب التحرير، مثلما غفروا للسلطان، ومثلما برّروا له؟!
وماذا سيكون موقف هؤلاء المسلمين إذا علموا أن المؤتمر الصهيوني الأوّل في بال 1897 بزعامة هرتزل، الذي أعلن أن نهاية الصهيونية هي «خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه الفرمان [السلطاني] العام»، كان أثناء المفاوضات الحميدية- الهرتزلية، أي في السنة الثانية منه، أي في بداياته؟! لماذا لم يوقف «خليفتنا»- الذي قد نعتبره كان مخدوعًا- المفاوضاتِ فورًا؟! و لنَعْلَمْ أن كل مقرّرات المؤتمر والمؤتمرات اللاحقة كانت تصله. ولنعلَمْ أن هرتزل قابل القيصرَ الألمانيَّ للتوسط لدى السلطان، في مدينة إسطمبول، بل على أبواب مستعمرة مَكْفِيه بفلسطين في ما بعد، كما دوَّن في مذكراته.
ولقد كان الجواب النهائي من «خليفة الرسول» لهرتزل «ادخلوا هذه البلاد رجالَ مالٍ وكونوا أصدقاءًا. بعد ذلك يمكنكم أن تفعلوا ما تشاؤون»، فهل إن الغاية (إنقاذ الخزينة) تبرّر الوسيلة؟ أو هل نستطيع أن نبرّر الأمر بكونه دهاءًا سياسيًّا من السلطان ونحرّمه على غيره من السياسيين المسلمين مع غيرهم مِنْ غَيْر الصهاينة؟!! ما مَوْقف حزب «الخلافة» مِنْ مُفَاوِضٍ مسلم آخَرَ اليوم مع أي قوّة إمبريالية دون التفريط في السيادة، كما فرّط السلطان؟!!
أخفقت الحركة الصهيونية «في تحصيل ورقة الاستيطان، لكنها حققت الفوز بشكل آخر، إذ راوغت التُّرْك في الهجرة والاستيطان، واستطاعت أن تؤسس لنفسها مستعمراتٍ كثيرةً على امتداد سير المفاوضات. وهي المستعمرات الأولى التي شكلت النواة الأولى لدولة اليهود في فلسطين»، وكان أول تنظيم صهيوني مسلح بفلسطين في عهد هذا السلطان، سنة 1907.
ورغم اتهاماتِ الكثيرين لحكومة الاتحاد والترقي، لم تُسلِّمْ فلسطينَ للإمبريالية البريطانية. «فالقدس لم تسقط بيد القوّات البريطانية، رغم الحروب المتواصلة والمنهكة [والمكلّفة] ضد الجيش العثماني إلا سنة 1917». وقد استمرّت معركة القدس قرابة شهر ونصف. ولقد كان عدد المستعمرات الصهيونية التي انضافت في عَهْدِ مَا بَعْدَ عبد الحميد الثاني أقل بكثير من نظيرتها في عهده. فعزْلُ السلطانِ مِن قِبل الاتحاديين لا علاقة له بفلسطين، بل بسبب إخفاقه الداخلي والخارجي، وخَوَر إدارته و«حلوله» الاقتصادية الساذجة.
بل إن طول المفاوضات، جعل هرتزل ينتزع مشروعية دُوَلِيَّة من السلطان عبد الحميد دون قَصْد منه، فاعترفتْ به الكثيرُ من الدول. ومِنْ ثمة اعترفتْ بأهداف الحركة الصهيونية و«حقها» المزعوم في فلسطين. كما ضَمِن بالمفاوضات «حقوق إقامة الصهاينة في فلسطين»، وذلك ممَّا نزع التردد عن كثير من اليهود بالعالم في التصهْيُن.
خاتمـة:
1) لم تَخْلف الدولة العثمانية النبيّ محمّدًا (ص) في صَحِيفَيّتِهَا (= دُستوريتها)، ولا في ولايتها الجماعية ولا في عدالتها الطبقية والجُنُوسية والعِرْقية.
2) يتحمل السلطان عبد الحميد الثاني مسؤولية مباشرة عن تمكن الحركة الصهيونية مِن الحِمَوية الفلسطينية بشكلٍ لم يَسْبِقْ عَهْدُهُ ولا عَهْدَ حكومة الاتحاد والتَّرقي، لأن متصرّفية القدس كانت في علاقة مباشرة قانونيًّا بالباب العالي.
3) إن ترسّخ مشروعية عبد الحميد الثاني في ذهنيتنا السياسية العربية والإسلامية عائق حاسم، منْ عوائق تحرير فلسطين اليوم. فتفاوضيته الساذجة مع الحركة الصهيونية، وضعفه القانوني في المواجهة (والذي أصبح عاملاً قانونيّا مساعدًا بقصد أو دون قصد)، مبرّران كافيان للاوعي السياسي الإخواني في التفاوض مع آي- پاك الصهيونية من أجل «التمكين» في السلطة الداخلية، ومن أجل رفض دَسترة تجريم التطبيع. وعبد الحميد مُوَجِّه هام للاَّوعي السياسي الأردوغاني لتبرير استمرار العلاقة الدبلوماسية بإسرائيل وتصعيد العلاقة الاقتصادية بها والغفران لها على إجرامها مع السفينة التركية ومع الفلسطينِيّن، والقبول التركي لحلف شمال الأطلسي على الأراضي التركية، وهو مُوَجِّه للاوعي السياسي الإخواني لـ«التمكين» السلطوي والتطبيع المعلن وغير المعلن مع الصهاينة في الداخل (مسلمين وغير مسلمين) وفي الخارج. وهو مُحْبط لا واعٍ جيّد لبناء استعدادات ثورية عربيّة مِن أجل اقتلاع الدولة الصهيونية.
فمن ممهدات تحرير فلسطين، اقتلاع الصنم الحميدي من نفوسنا جذريًّا.
4. من العجيب أن أحد قُدوات العلمانيين العرب حَنَّبَعْل المنهزم، الذي غَامر باحتلال عاصمة أوروبا (رومة)، ولما وصل إلى أسوارها كان احتفاله الخمري قبل اقتحامها، فلما تفطن له أهل رومة انقضّوا على جنوده السكارى، حتى قال المثل اللاتيني عنه: «يَحتَفِل المنهزم بانتصاره أمام أسوار رومة!». أما أحد أكبر قدوات «الإسلاميين» العرب فهو رجل مخفق، ساذج سياسيّا، منهزم، هو عبد الحميد الثاني، سَلَّم فلسطين وهو يتوهّم الدفاع عنها!!وهكذا المادة في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية: د. عادل بن خليفة بالكَحْلة
هذا هو كل المقالات في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية: د. عادل بن خليفة بالكَحْلة هذه المرة، ونأمل أن توفر فوائد لكم جميعا. حسنا، أراك في وظيفة أخرى المقال.
كنت تقرأ الآن المقال في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية: د. عادل بن خليفة بالكَحْلة عنوان الرابط https://notscrets.blogspot.com/2019/03/blog-post_881.html

0 Response to "في ذكرى سقوط «الخلافة» العثمانية: د. عادل بن خليفة بالكَحْلة"
إرسال تعليق