عنوان: حـــــرّاس الــــمعــــبد، كُفّوا أيديكم عن القراءة و الفكر! د.منية العلمي أستاذة .علوم القرآن والتّفسير بجامعة الزيتونة بتونس
حلقة الوصل : حـــــرّاس الــــمعــــبد، كُفّوا أيديكم عن القراءة و الفكر! د.منية العلمي أستاذة .علوم القرآن والتّفسير بجامعة الزيتونة بتونس
حـــــرّاس الــــمعــــبد، كُفّوا أيديكم عن القراءة و الفكر! د.منية العلمي أستاذة .علوم القرآن والتّفسير بجامعة الزيتونة بتونس
حضرني قوله تعالى:"قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا" سورة الكهف/109،وأنا أتساءل وأبحث عن سبب انقسام المسلمين وتشّتتهم،وعن سبب تقهقر أوضاعهم على جميع المستويات ودون الدّخول في التّفاصيل،ما معنى أن نجد "مسلما متشّددا"و"مسلما منفتحا" أو جهة تمّثل أو تدّعي أنّها تمّثل الإسلام الأصيل، وجهة أخرى تدّعي أنّها تمّثل الإسلام المعاصر، وربّما جهة أخرى تطلع علينا بإسلام حسب الطّلبà la carte !؟
لم أفهم وأنا المختّصة في علوم القرآن والتّفسير والباحثة فيهما، كيف يمكن للإسلام أن يكون له أكثر من تمّثل، وأكثر من وعي؟ ثمّ كيف أمكن لهذا الكتاب بين دفّتين أن يكون حجّة الجميع ؟ للسلّفي والمتشّدد والجهاديّ، والأصوليّ والمعتدل، والمستنير، والمعاصر...؟؟ أتقصّى إجابة عليّ-رضي الله عنه-: "القرآن بين دُفّتي المصحف لا ينطق وإنّما يتكلّم به الرّجال". فتكلّم الخوارج، وتكلّم عليّ، وتكّلم عمر، وتكّلم الجميع، فتعدّد الإسلام الواحد الموّحد، وأقصى الجميعُ الجميعَ ،من دائرة إسلامه، وتكلّم النصّ.
والواقع أنّ النصّ تكلّم قبْلا ونطق قبْلا ولم يُسمع له إلاّ قلّة مهتدية، وكان أوّل ما نطق به: " إقــــــــــرأ "وكرّر وشدّد:"إقــــــــــرأ"، فهل قرأنا ؟وإن كنّا قرأنا هل أحسّنا القراءة ؟؟
أوْرد أهل السّنةّ في كتبهم من أنّه لم يبق عندهم-المسلمون بعد وفاة النبيّ- شيء كان على زمان رسول الله (ص) إلاّ الصلاة، وقد أحدثوا فيها ما أحدثوا.
فقد أخرج البخاري في صحيحه، والمقدسي في الأحاديث المختارة، وغيرهما، بأسانيدهم عن الزّهري أنّه قال: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً ممّا أدركتُ إلاّ هذه الصلاّة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ" .وفي رواية أخرى، قال:" ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد النبيّ-صلّى الله عليه وسّلم- قيل: الصلاة؟ قال: أليس ضيَّعتم ما ضيَّعتم فيها!" ،وأخرج مالك بن أنس في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنّه قال:" ما أعرف شيئاً مما أدركتُ عليه الناس إلاّ النّداء للصّلاة" . وأخرج أحمد في المسند عن أمّ الدّرداء أنّها قالت:" دخل عليَّ أبو الدّرداء وهو مغضب، فقلت: مَن أغضبك ؟ قال: والله لا أعرف منهم من أمر محمد صلّى الله عليه وسّلم شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً"
لا يمكن أن نفهم ما يحدث اليوم إلاّ إذا أدركنا واستوعبنا ما حدث في تلك اللّحظة البعديّة لانقطاع الوحي، فما الّذي حدث بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم؟ ما الّذي أخذه المسلمون من الدّين وما الذي تخلّوا عنه منه؟هل خمدت الجاهليّة بمفهومها المتغطرس القبليّ برهة من الزّمن هي مدّة إشعاع الوحي ثمّ عادت بعد ذلك لتطفوَ في الضمّائر والنّفوس ولتحتلّ موقعا تخلّت عنه على مضض؟ هل انتصرت مقوّمات القبيلة على مقّومات الدّولة ؟هل نجح الفراغ الروحيّ والماديّ الذي أحدثته مفارقة النبوّة في إيقاظ الأطماع وإحياء النّزعة إلى السّلطة وإلى النّموذج المألوف نموذج الآباء و الأجداد؟؟ ثمّ أين النصّ من كلّ هذا وأين القراءة؟ هل توّقفت القراءة النبويّة تمّثلا وسلوكا لأنّ الجميع كان يبحث عن تمّثل لأنموذجه ولأهوائه من داخل النصّ؟هل خاض الأمويّون والعباسيّون سلطة الدّولة عبر سلطة النصّ؟هل طغى هذا النّموذج في الفهم على كلّ النّماذج بعده حتّى أصبحت التّفاسير عالة على بعضها كما صرّح ابن عاشور؟ فأين نحن من النصّ وأين نحن من قراءة النصّ؟
لا ننكر أنّ فعل القراءة بمعنى استحضار العقل في فهم وتدّبر القرآن الكريم، بدأ كنشاط مبّكر في القرون الأولى للإسلام كفكر،وقد أنتج ذلك الفكر تمّثلا لمفهوم ختم النبّوة ووعيا وإدراكا لحقيقة ختم الرّسالة وابتداء عهد العقل-على رأى محمّد إقبال-،غير أنّ جانبا من ذلك الفكر وقع إعدامه حين استشعرت خطورته على مسار السّلطة، وجانب آخر وقعت إحاطته بهالة من التّقديس في عصور الجمود والانحطاط وبات مصدر المصادر كلّها، ومرجع المراجع كلّها حتّى استرق القداسة من الأصل، فشُيّدت له المعابد وتكّون في حرمه كهنوت جديد لا يجرأ على التّفكير خارج أسواره ولا يسمح بالاقتراب من تلك الأسوار على خلفيّة زعزعة استقرار الشّريعة وتهديد سكون التّشريع، والشّهادة للّه أنّ المؤسّسين الأُوَل لتلك العلوم المحروسة، بلغوا جهدهم في القراءة، والفهم، والتدّبر، والتّفكر، والتّأمل ،و حرّكوا النصّ وولّدوه ،فنفعوا حاضرهم وماضيهم، وما كانوا أبدا حّراسا لمعبد، بقدر ما وضعوا لبنات في ذلك المعبد المنفتح لتغيّرات العصر، المساير لحركة العقل وسيرورة الفكر والإبداع الحضاريّيْن.
لقد كان لهؤلاء العلماء الأفذاذ وعي بالشّريعة الباقية الخاتمة، فاستجلبوا لها التّشريع خادما مرحليّا لإمتدادها ولعمقها و لشمولها ولكونيّتها،وأبدا ما مزجوا بين الشّريعة وبين التّشريع،ما مزجوا بين الكلّ والجزء، وحرّاس المعبد اليوم يحرسون الجزء ظنّا منهم أنّهم يحرسون الكلّ!
ولأنّ هذه المسالة محوريّة في هذا الطّرح نتوّقف عند فهم أدّق لمصطلحيْ كلّ من الشّريعة والتّشريع.
فلقد عُرّفت "الشّريعة" بأنّها الائتمارُ بالتزام العبُوديّة كما قيل أنّها الطريق في الدّين،() فهي عبارة عن مجموعة الأحكام التّي نزّلها الله سبحانه وتعالى للنّاس على سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسُمّيت هذه الأحكام بالشّريعة، لأنّها مُستقيمة مُحكمة الوضع، ولأنّها شبيهة بمورد الماء الجاري، في أنّ كلاّ منهما سبيل للحياة، فأحكام التّشريع سبيل لإحياء العقول والنفوس، والماء سبيل لإحياء الأجساد والأبدان، ذلك أنّ الشرعة والشّريعة في كلام العرب، مشرَعةُ الماء وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون().
والشّريعة والشّرع والشّرعة والمّلة بمعنى واحد، ومن الشّرع والشّريعة اشتقّ شَرَع بمعنى: أنشأ وسَنّ القواعد وبيّن النُّظم وأوضح الأحكام().
ويرى محمد فاروق النّبهان أنّ التّشريع في معناه الاصطلاحيّ هو سّنّ القوانين التّي تُعرف بالأحكام المُنظّمة لحياة الأفراد في معاملاتهم ويشمل هذا المعنى: التّشريع المستمدّ من مصدره الإلهيّ أو مصدره البشريّ().
وبناءً على هذا المعنى، فإنّ التّشريع الإسلاميّ ينقسم من حيث مصدره حسب محمد فاروق النّبهان إلى قسمين:
أ-تشريع إلهيّ محض: ويشمل القواعد التشريعيّة المُستمدّة من النّصوص الثابتة، القرآن والسنّة، وتتّصف هذه القواعد بصفة الثّبات والاستمرار، لأنّها قواعد مُنزّلة من عند الله.
ب-تشريع إسلاميّ وضعيّ: ويشمل الآراء الفقهيّة الواردة عن الفقهاء والمجتهدين، وهذه الآراء لا تتّصف بصفة الثبات والاستمرار لاحتمال الخطإ فيها، لأنّها لم تأت عن طريق النصّ المباشر().
هذا الانقسام في دلالة لفظ الشّريعة بين إلهيّة وبشريّة، يقودنا في هذه المرحلة من البحث نحو موضوع شديد الأهمّية، طرحه الصّادق بلعيد في كتابه "القرآن والتشريع"، ممثّلا في ضرورة التّفريق بين الشّريعة القرآنيّة والشّريعة الإسلاميّة، وذلك على أساس أنّ الأولى "تعيّن ما يوجد من أحكام في القرآن الكريم، أمّا الثّانية، فهي تتجاوز ما نصّ عليه القرآن الكريم لتشمل حصيلة اجتهاد الفقهاء والمفسّرين وتصوّراتهم المختلفة والمتضاربة حسب الزّمان والمكان"().
تعرّض إلى هذه المسألة كذلك محمد سعيد العشماوي، مع اختلاف في التّسميات، فما أطلق عليه بلعيد "الشّريعة الإسلاميّة" اعتبره العشماوي "الفقه الإسلاميّ"، هذا الفقه الذي -في نظره- لم تحرص أيّ جهة طوال التّاريخ الإسلاميّ على التّمييز بينه وبين الأحكام الشرعيّة، حتّى انتهى إلى الاختلاط بالأحكام الإلهيّة، فأصبح في الفهم العامّ هو الشّريعة وامتزج بذلك النصّ الدّينيّ بالفهم البشريّ، يقول: "ومع الوقت تكوّن هيْكل ضخم من القواعد القانونيّة التّي اختلط فيها المقدّس بالبشريّ، وتداخل ما جاء من الله مع ما صدر عن النّاس، وامتزج الحُكم مع تطبيقاته وتفسيراته، فانتهى الأمر إلى أن يُصبح معنى الشريعة في الغالب هو الفقه، أي الآراء البشريّة، أكثر ممّا يُفيد الأحكام الإلهيّة"().
فالعشماويّ يُفرّق بين الشّريعة المعبّرة عن النّصوص الحُكميّة، والشّريعة المستنبطة بالنّظر لتلك النّصوص، ففي بعدها العميق، تطرح الشّريعة -في نظره- ما تتجاوز به هاتين الدلاّلتين المحدودتين، فهي: "المنهاج الذي يُهيْمن على الأحكام ويطبعها بطابعه، وليست هي الأحكام بحال من الأحوال، وهي الرّوح التّي تُنفّذ ضمن القواعد والتّطبيقات والتّفسيرات، وليست هي القواعد ولا التّطبيق ولا التّفسير، وهي الحركة التّي تتدفّق في أيّ نصّ وفي أيّ لفظ وضمن أيّ تعبير، لكنّها أشمل من النصّ وأرحب من اللّفظ وأوفى من التّعبير. إنّ الشريعة هي المنهاج اللاّزم للتقدّم بظلّ يطبع الأحكام بطابعه دون أن يُستنفذ في حكم، وهي روح التّجديد يستمرّ في خلق قواعد جديدة، وتطبيقات مُستحدثة وتفاسير عصريّة، لكنّه لا يتجمّد أبداً في قاعدة أو تطبيق أو تفسير"().
إنّ الشريعة بمفهوم العشماوي، هي بلا شكّ الجُهد البشريّ والنَّفَس الإنسانيّ يتجاوز عناصر الزّمان والمكان ليتعامل مع النصّ الحُكميّ في كلّ مرّة بروح متجدّدة.
فشريعة العشماوي هي أشمل وأرحبُ ممّا وَسَمَه الصّادق بلعيد بالشّريعة الإسلاميّة، إذ جاءت تتماهى مع نفس الدّلالات الفلسفيّة العميقة التي أفرزتها قراءة محمّد عبد الرّحمان مرحبا للدّين الإسلامي في بعده الإنسانيّ وبعده الحضاريّ وبعده الكونيّ العامّ، يقول : "هذه الحقيقة*، ليست كومةً من الأفراد، إنّها ليست مجموعًا حسابيّا، ليست حصًى بشريّة انضمّ بعضها إلى بعض وتراكم بعضُها فوق بعض، كلاّ، إنّها نظام كامل جديد في العلاقات المُتشابكة المُعقدة المشحونة بالرّموز والمعاني، أجل إنّ جوهر هذه الجماعة ليست الكثافة العدّدية، إنّما جوهرُها القيم الروحيّة والمُثل العقليّة والمكاسب الحضاريّة، إنّها كلٌّ عُضوي متكامل، وهو ينمو بديناميّة باطنة تتفجّر من الينبوع الثريّ الذاتيّ، ينبوع الحياة الدّافق... إنّ هذا الكلّ وقد شُحن بالدّين الجديد، تفاعلت عناصرُه معا تفاعُلاً جديدا تولّد عنه نمط جديد من التفكير والسلوك والحياة"()، فهذا التّماهي بين الشّريعة القرآنيّة وبين الحركة السوسيوديناميّة للمجتمع، يُؤذن بانعتاق هذه الشّريعة، وبقرارها الانفصال عن حقبة الجاهليّة والعصبيّة والانغلاق، ممّا تتأّكد معه حاجتنا إلى الشّريعة القرآنية الخالصة، فهي ما ننشد،إذ هي التّي تحدّد الأحكام الإلهيّة، وهي التّي تقدّم لنا الحُكم كما أراده التّنزيل، ولا حكماً إنسانيّا يمتزج فيه المقدّس بالبشريّ.
ينتج عن هذا الفهم سؤال بديهيّ عن العلاقة بين "الشّريعة القرآنيّة" و "الفقه وأصوله"؟
أمّا الشريعة فلقد أجمعت أغلب التّعاريف التّي أوردناها، على أنّها مجموعة الأحكام الإلهيّة المنزّلة إلى النّاس، فلقد ورد في اللسان أنّ الشّريعة والشّرعة : ما سنّ الله في الدّين وأمر به كالّصوم والصّلاة والحجّ والزّكاة()، وأمّا الفقه فهو العلم بتلك الأحكام الإلهيّة بعد فترة من صدر الإسلام، ويمثّل تعريف ابن خلدون له، الأنموذج الأكثر تداولاً في كتب الاختصاص، فهو "معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلّفين بالوُجوب والحذر والكراهة والإباحة، وهي مُتلقّاة من الكتاب والسُّنة وما نصبه الشّارع لمعرفتها من الأدّلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدّلة قيل لها فقه"().
ويذهب محمد فاروق النّبهان أنّ مصطلح "الفقه الإسلاميّ" يُستعمل للدّلالة على أحد معنيين:
- أوّلهما: العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة من أدّلتها التفصيليّة، ثمّ أصبحت كلمة "فقه" تدلّ على الأحكام الشرعيّة الثابتة لأفعال المكلّفين ممّا يدخل تحت اسم الأحكام العمليّة، بخلاف الأحكام الاعتقاديّة، فهي لا تدخل ضمن كلمة "فقه"، وإنّما تدخل ضمن "علم الكلام".
- ثانيهما: أنّ الفقه الإسلاميّ مصطلح يدلّ على مجموعة الأحكام العمليّة المشروعة في الإسلام، وهذا المعنى يختلف عن المعنى الأوّل، إذ تُطلق كلمة "الفقه الإسلاميّ" على نفس الأحكام الشرعيّة وليس على مجرّد العلم بها، فتكون كلمة "الفقه" مُرادفة لكلمة "الشّريعة" في مفهومها الدّال على الأحكام العمليّة دون الأحكام الاعتقاديّة"(). فتعريف النّبهان يوجز مسار الّلفظ في تطوّره، وهو يوضّح في موضع آخر العلاقة بين دلالتيْ الشريعة والفقه بقوله: "إنّ كلمة "الشريعة" تُفيد معنى أعمّ ممّا تُفيده كلمة "فقه"، وأحياناً تأتي كلمة "الشّريعة" مرادفة لكلمة "الفقه"، فإذا جاءت مرادفة فهي تشمل نوعاً من الأحكام لا تشملها كلمة "الفقه"، وهي "الأحكام الاعتقاديّة" و"الأحكام الخُلُقيّة"().
وعليه، فإنّ فاروق النّبهان، يجعل الفقه قاصراً على العلم بالأحكام العمليّة فقط، ولذلك اكتست كلمة "الشّريعة"،حسب رأيه، معنى أعمّ من كلمة "فقه". وبناءً على هذا المفهوم، مفهوم الشّريعة الأعمّ، فإنّ الأحكام التّي تشملها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحكام اعتقاديّة، أحكام خُلُقيّة، وأحكام عمليّة *.
هذا فيما يتعلّق بالعلاقة بين "الفقه" و"الشّريعة"، وهي علاقة تبوح بمحدوديّة مصطلح "الفقه" مقارنة بمصطلح "الشّريعة". فماذا عن أصول الفقه ؟ ثبت من هذا الجانب، أنّ الإجماع حاصل على أنّ هذا العلم يختصّ بالنّظر في أدّلة تلك الأحكام، وهي الكتاب والسُّنة والإجماع، فالعلم بطُرق ثبوت هذه الأصول الثّلاث وشروط صحّتها ووُجوه دلالتها على الأحكام، هو العلم الذي يعبّر عنه بأصول الفقه، يقول ابن خلدون في شأنه: "هو النّظر في الأدّلة الشرعيّة من حيث تُؤخذ منها الأحكام والتآليف وأصول الأدّلة الشرعيّة هي الكتاب الذي هو القرآن ثمّ السُّنة المُبيّنة له"().
إنّ تأكدّ وثوقيّة العلاقة بين دلالات المصطلحات التّي تعرّضنا إليها -في مستوى جدليّ على الأقلّ- يدعو لضبط مؤّكد لدور الفقيه إلى جانب تدقيق في وسائل عمله، ولقد كان للإمام الشافعيّ –رحمه الله- (ت204هـ/820م) الفضل الكبير في حسم هذه المسألة بتحديده للمصادر التّي تنشأ عنها الأحكام القانونيّة والآراء الفقهيّة، إذ وضع المبادئ الأساسيّة لعلم أصول الفقه الذي توضّحت ملامحه في أوائل القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلادي. وجاء بعده بقرون الإمام الشّاطبي، الفقيه المالكيّ (790هـ/1388م)، محاولا في كتابه "الموافقات" بسْط مشروعه المتمثّل في إعادة بناء منهجيّة التّفكير الأصوليّ على أساس اعتبار " المقاصد"، بعد أن بقيت منذ الشّافعي مبنيّة على استثمار الألفاظ واستنباط العِلل، واعتماد "القياس".
وانظروا ماذا يقول ابن خلدون عن الأدّلة الأساسيّة التّي يحتاجها الفقيه الأصوليّ لاستنباط الأحكام الشرعيّة. : "هذه الأدّلة أغلبها من النّصوص (القرآن والسُّنة) وهي بلغة العرب، وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها اختلاف بينهم معروف"().
إذا فتح ابن خلدون باب احتمال وقوع الإختلاف في فهم الألفاظ التي تُبنى عليها الأدلّة، بمعنى أرشد إلى إمكان تعدّد الأدّلة، وعليه إمكان تعدّد الإستنباطات والفهوم.
ففيما نسّب الأوائل ، أطلق المتأخرّون، فاحتكروا المعنى وقيّدوا فعل القراءة، وحركة الإستدلال ولم يستنبطوا ولم يبدعوا أيّ جهاز للكشف خارج ما استحدثه المتقّدمون الذين بفضلهم "نفّكر" نحن اليوم حتّى دون استئذانهم، فكان أن قسّموا الأمّة وشتّتوها وتسّببوا فيما نحن والعالم برّمته فيه، من مفاهيم منتهية الصلوحيّة أدّت إلى وجود جماعات إرهابيّة أغلب عناصرها من الذين وقعوا في المغالطة الكبرى: عدم التّفريق بين الشّريعة والتّشريع، ففي دفاعهم عن الجزئيّ، شوّهوا الكليّ، فأساؤوا إلى الإسلام والمسلمين، ومن ورائهم حرّاس المعبد الّذين احتكروا الفهم، وأجهضوا المعنى في نصّ على درجة عالية من الخصوبة التّي تمّثل مناط صلوحيّته لكلّ مكان وحين. فنحن اليوم في حالة شلل عن القراءة والفكر، نحن اليوم نوهم أنفسنا بالاجتهاد ،ونحن لانفعل غير استعارة مناهج ،وضوابط ،وقواعد سيقت لغير زماننا ،نحن عالة منهجيّا ومعرفيّا على علمائنا، علماء خلّدوا زمانهم فبم سوف نخلّد زماننا ؟!
وهكذا المادة حـــــرّاس الــــمعــــبد، كُفّوا أيديكم عن القراءة و الفكر! د.منية العلمي أستاذة .علوم القرآن والتّفسير بجامعة الزيتونة بتونس
هذا هو كل المقالات حـــــرّاس الــــمعــــبد، كُفّوا أيديكم عن القراءة و الفكر! د.منية العلمي أستاذة .علوم القرآن والتّفسير بجامعة الزيتونة بتونس هذه المرة، ونأمل أن توفر فوائد لكم جميعا. حسنا، أراك في وظيفة أخرى المقال.
كنت تقرأ الآن المقال حـــــرّاس الــــمعــــبد، كُفّوا أيديكم عن القراءة و الفكر! د.منية العلمي أستاذة .علوم القرآن والتّفسير بجامعة الزيتونة بتونس عنوان الرابط https://notscrets.blogspot.com/2017/09/blog-post_66.html
0 Response to "حـــــرّاس الــــمعــــبد، كُفّوا أيديكم عن القراءة و الفكر! د.منية العلمي أستاذة .علوم القرآن والتّفسير بجامعة الزيتونة بتونس"
إرسال تعليق