عنوان: الوطن هويّة: تفاعلا مع خطاب رئيس الدولة حول المساواة في الميراث د. مصباح الشيباني
حلقة الوصل : الوطن هويّة: تفاعلا مع خطاب رئيس الدولة حول المساواة في الميراث د. مصباح الشيباني
الوطن هويّة: تفاعلا مع خطاب رئيس الدولة حول المساواة في الميراث د. مصباح الشيباني
المقدمة
يبدو أن السيد الرئيس ومن ورائه ما يسمى بـ"التيار العلماني"، ومن خلال ما طرحه اليوم حول المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، لم يستوعب قانون التطور ومنطق التاريخ الإنساني ولم يدرك أن بناء مستقبل المجتمع لم ولن يتم إذا لم يتحّرك من داخله. كما أن التحكم في مسار بناء مشروعه النهضوي واستيعاب استحقاقاته الرّاهنة، لا يمكن أن يكون عبرالتمسّك بالوصفات العلاجيّة الاستعجالية والمملاة من قبل الدوائر الدولية والإقليمية مثل: الاتحاد الأوروبي() أو المنظمات المالية المانحة.
ليس هدفنا من خلال هذا النص، الدخول في حوار معمق للخطاب، لأنه لا يحتاج أكثر من مقال قد نضيء من خلاله الطريق أمام من عميت أبصارهم وتكلست أفكارهم في دائرة الأيديولوجيات العقيمة وأهمهم بعض الليبراليين الذين باركوا هذا الخطاب. وكذلك، انطلاقا من الزخم الاعلامي-المؤيد والرافض، وتفاعلا معه، أحسسنا بالحاجة مثل غيرنا ومن واجبنا الوطني والأخلاقي، أن نستجلي بعض ما يحدث، وأن نرتب قليلا من ردود فعلنا بهدف الدفاع عن هوية هذا الوطن واستقلاله في حدود التأمّلات العلمية.
لهذا سوف نكتفي بالإجابة عن الاشكالية التالية: إلى أي مدى يمكن القول أن هذا الخطاب وما حمله من رسائل للبعض ـ في الداخل والخارج ـ يشكل حلا لمشكل قائم يستوجب حلا حتى تحل بقية مشاكل البلاد الأخرى ( الفساد والبطالة والهجرة والإرهاب ...) أم أنه مجرد رد فعل "لحظي" سياسي وإعلامي استجابة لبعض "الاستحقاقات" الداخلية و"الضغوطات" الخارجية؟
1ـ المقاصد متعدّدة لكن النتيجة واحدة
إنّ الحرّيات السّياسة والمدنيّة والاقتصادية، تتشكّل وتتعدّل بطرق مختلفة في تنوع لانهاية له من الأشكال والصّور وفقا لطبيعة كل مجتمع وظروفه الخاصة. وهذه الحقوق والحريات لا يمكن تجزئتها أو تأجيل بعضها على حساب أخرى، كما لا يمكن مفاضلة فئة اجتماعية للتمتع بها دون الفئات الأخرى. فهي كُلّ لا تقبل التجزئة ولا يمكن نقلها من مجتمع إلى آخر بقرار سياسي إذا لم تكن حلا لمشكل قائم فعلا. وقد كانت المرأة في تونس أداة استغلال ورأسمال اجتماعي وسياسي حاول البعض توظيفه سياسيا من أجل أهداف شخصية أو حزبية. نتيجة فشل تونس في حل مشاكل المجتمع على مدى سنوات، وعدم مواكبتها للتّغيرات الدولية والاستحقاقات الداخلية، وعدم وضوح الرّؤية بشأنها عملت على حشر مسائل "هامشية" من حين لآخر من أجل ملء الفراغ الإعلامي والرأي العام رغم أنّها مخالفة للدّستور.
مهما تعدّدت النوايا أو المقاصد من هذا الخطاب، فإنّ مسيرة حركة المجتمع التونسي، تؤكّد أن الدين مكوّن أساسيّ في هويته وفي تشكيل سلوكيات الأفراد والمجموعات حتى الذين لا يلتزمون به، لأنه ساهم مع عناصر أخرى ( اللغة والتاريخ والثقافة ..) في نحت "شخصيتنا القاعدية" بالمعنى البسيكو-سوسيولوجي للعبارة. وكل من يعتدي على هوية شعبنا ـ تحت أي ذريعةـ كمن اعتدى على وطننا، لأن الوطن هوية قبل أن يكون جغرافيا. فالدعوة إلى "المساواة بين المرأة والرجل في الميراث" هي عبارة عن نوع من "العمى الأيديولوجي" باعتبارها تقدم نفسها النقيض المطلق لكل فكر يستند إلى مرجعية الدين الإسلامي. وتاريخنا العربي شاهد على ما حصدناه على مدى قرنين من ثقافة تقليد الآخر والتبعية له في الحقوق والحريات، فلم تنتج سوى حالة من الانفصال الحضاري والتوتر والقلق والفتنة الداخلية، لأن انتقال أغلب هذه الحقوق تم" في إطار ظرفية التدخل الأجنبي وهو ما غيّر من مقاصدها().
لعلّ الخطر الأكبر لنتائج هذا الخطاب، في بعده الأيديولوجي، هو تحوله لدى البعض إلى شكل من أشكال "العقيدة الدنيوية" الخلاصية والديانة "الإنسانية" الجديدة مثلما نفهم من نص البيان() الصادر عن "دار الافتاء" التونسية الذي يشيد بهذا الخطاب، على أنقاض دين الأمة وحضارتها وتاريخها. وهو في رأينا يحمل معاني خطيرة وأهمها محاولة بث ثقافة الخوف من الإسلام التي يسعى الغرب وعملاؤه إلى نشرها عن طريق الجمعيات ، خاصة الشبابية، وحتى تتحول شيئا فشيئا إلى منظومة قيمية متحكمة في حياتهم اليومية، ولتصل في النهاية إلى إنتاج حالة من الاستبطان المجموعي لمقولاتهم العدائية، وعبر مختلف مجالات المعرفة من تربية وإعلام وثقافة وسياسة.
إذاً، هذا الخطاب أو "المشروع المجتمعي" الذي يسعى إلى بناء مسار تاريخي جديد لتونس في ظل الثقافة التابعة لأروبا، تجاهل أو نسي أن المسارات التاريخية الشعوب لا تتم بقرار فوقي من بعض القوى أو الأشخاص، بل يبني الإنسان المشروع المجتمعي من خلال حركة جدلية بين ماضيه ومستقبله. فالتجربة الغربية تمثل موضوعا للدراسة لا للإقتداء ولمعرفة تجارب الآخرين لا لنقلها. فـ " لولا الظرف التاريخي (مرحلة التحرر الوطني) لما انتشرت الشيوعية الرومانسية في البلاد العربية().
إنّ التجاء بعض العرب وزعماء ما يسمى بـ "التيار العلماني" إلى الاقتداء بالتجارب الغربية لم يقض على مشاكل تخلفنا. لأن أسباب تخلفنا لا تعود إلى طبيعة الدين ووظيفته في المجتمع، بقدرما تتمثل في غياب مؤسسات المجتمع المدني الممثلة للمواطنين والمعبرة عن انشغالاتهم ومواقفهم. كما إن الانفتاح على الروافد الفكرية للغرب وتجاربهم لا يعني الانفصال الحضاري عن هويتنا، بل يجب أن تكون قائمة على النقد واختيار منها ما يصلح لنهضتنا، وترك ما لايصلح منها.
يذهب "محمد أركون" إلى أن حداثة العصر الكلاسيكي الأوروبي من القرن السادس عشر إلى حدود سنة 1950، والتي يمثلها المثقفون الليبراليون العرب في الجامعات الغربية " لم تكن كافية لأن تفتح ثغرة في السياج الدوغمائي المغلق، عن طريق فرض بديل جديد. أقصد فرض ثقافة دنيوية فعالة قابلة للتمثل والاستخدام من قبل القوى الحية والفاعلة في المجتمع().
لقد كان التيار العلماني في الوطن العربي تيارا نخبويا، وسعى إلى التنظير لمفاهيم ليبرالية غربية، لكن برهنت التجارب الماضية "يوتوبية" نظرته لما طالب بالفصل بين الدين والدولة بشكل مطلق، باعتبار أن هويّة الشّعوب هي ذاكرتها الجماعية التي تبنى من خلال التّراكم وليس القطيعة أو التقليد. ومن الأمثلة التي تؤكد هذه الرؤية المتبصرة في التفاعل مع الآخر، التجربة اليابانية، حيث تطورت الثقافة اليابانية في كنف قيم وعادات قومية راسخة. لم تتصادم مع النزعة التطورية-التجديدية، التي كانت تسعى إلى تكييف تلك القيم بما يتلاءم واحتياجات التقدم الاجتماعي الياباني، مع الإحاطة الحاذقة بالخصائص القومية لهذا الشعب في كل مراحله من مراحل تطوره التاريخي والاقتصادي والعلمي.
من المؤسف اليوم، في حالة السجال الفكري والحوار السياسي، بعد الثورة في تونس، أن نوضع من جديد في دوامة من "التفكير البيزنطي" دون الوصول إلى تصحيح لأفكارنا وضبط مضامينها الحقيقية. ومن ثم تبقى هذه المضامين عاجزة على أن تعطي للشعب العربي مبرر طرحها وبالتالي غياب أية وجاهة في إمكانية حل قضاياها، وكشف ما تحاول اللائكية إخفاءه تحت مظلة "المساواة" أو العلمنة والتحديث...الخ.
إنّ منطق العلم وتاريخ الإنسانية، يقول أن التغير أو التطّور البشري هو عملية متكاملة وشاملة، يتم عبر تفاعل الإنسان مع محيطه الطبيعي، أي عبر ما يسمى في علم الاجتماع بـ"الحراك الذّاتي للمجتمع" من حيث أنساقه الاجتماعية والسّياسية والمّادية والرّمزية والدينية. وطالما أن التّحديث أوالنّهضة العربية هي عملية مركّبة ومتعدّدة الأبعاد، لابدّ أن تطرح في اطار تصور تغييري شامل لمختلف هذه الأنساق المجتمعية. أما المعايير الغربية التي كشفت عنها أبعادها الأيديولوجية ، فلم تؤد إلا إلى إنتاج نظام للممارسات والقيم الليبرالية المشوهة لمنظومة قيمنا العربية والإسلامية، ولم تنتج إلا حالة التبعية الهدّامة، عوضا عن التّنمية المستدامة.
فالجماهير العربيّة ثارت على أنظمتها الفاسدة وانتفضت في مختلف الأقطار العربية ولم تكن مدفوعة بولاءات طائفيّة أو أيديولوجية أو دينية، بل كانت تحرّكها المشاعر الوطنيّة والقومية الصّادقة في التخلّص من أنظمة الاستبداد ومن واقع التخلف والتّبعية إلى الغرب الاستعماري. لذلك، علينا أن نجازف بقول أشياء معرضة للنقد وتكون موضع خلاف شريطة أن يكون في ذلك إثارة حقيقية لقضايانا الأساسية وليس لمجرد الترف الفكري أو من باب المغالطات أو الارتدادات التاريخية.
2ـ المسكوت عنه في " الخطاب "
كان الدين الإسلامي وسيبقى مقوما أساسيا من مقومات هوّية شعبنا العربي في تونس مهما اختلفت الأزمان والأمصار. لكن الترابط بين المجالين الديني والسياسي وما يتميز به من اصطدام عندنا ، ومن توظيف وأدلجة ـ من قبل التيارين الإسلامي والعلماني معا ـ أدت بهما في أغلب المحطات التاريخية إلى محاولة إخراج هذا الدين من التأثير في المجتمع ووضعه موضع الاتهام والمواجهة مع السّلطة. وهو ما أدّى إلى "انعدام تحول الظاهرة الديّنية إلى موضوع علمي والى غياب الحقل العلمي المستقل عن سلطة الفقهاء والدولة().
أصبحنا اليوم، نعيش حالة الاستقطاب الحدي بين العلمانيين والإسلاميين على نحو غير مسبوق في تاريخ الأمة العربية عامة وتونس خاصة. أصبحنا نعيش في ظل مشهد مجتمعي تهيمن عليه ما يسميه البعض بـ" الطائفية الثقافية" أو"الحروب الأهلية الفكرية" الأمر الذي يهدّد كيان المجتمع والأمة ويستنزف قواها ومواردها على حساب البحث في أمهات القضايا من تجزئة وتخلف واستعمار. ففي ظلّ التحولات الإقليمية والدولية الراهنة بات الاستخدام السّياسي للدّيانات والمذاهب حينا وللقبلية والعروشية حينا آخر في مجتمعنا ظاهرة لافتة وخطيرة على المستوى الاجتماعي والثقاقي وتهدد اندماجنا الوطني والعربي.
ليس غريبا أن يعرف تاريخنا العربي الذي يتميز بالتعددية في مستوى الشرائع والمذاهب وفي الألسن واللّهجات والقوميات والاتجاهات ألوانًا من الابتلاء والتوتّر، وأن نشهد اليوم، من يريد إسقاط تونس في مستنقع التّناحر الأيديولوجي، والاقتتال الداخلي بين السياسيين والمفكرين والفقهاء ، كما هو الأمر بين الأعراق والأديان والجهات في مجتمعات أخرى. والدّعوة إلى تفكيك هويتنا ، تحت أي عنوان، ومهما كانت مسمياتها وخلفياتها هي الدعوة إلى النّكوص إلى ما قبل أربعة عشر قرنا. إنّها الدعوة للخروج على عقلية وحدة مجتمعنا، تاريخا وثقافة وحضارة ووجدانا، من أجل إعادة الصدام مع هويتنا وذاتيتنا. هؤلاء الذين يسلبون عقول الناس بالتخويف من العروبة هوية أو من الإسلام دين حياة هم أكثر القوى حرصا على كتم الأنفاس واغتصاب العقول من خلال طرح إشكالية الهوية من جديد والتشكيك في مقوّماتها.
كان من اللازم على كل مفكرعربي صادق وحر، أن يعيد التفكير وفق مقاربات علمية وصادقة تنطلق من واقع هوية مجتمعه الذي ينتمي إليه في جميع مستويات تعقيداته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وليس من تلك الخطابات التي استندت إلى أطروحات "منقولة" متخارجة. فليست الحضارة العربية مجرد فكر نخبة أو زعيم حزب سياسي، أو صحيفة مكتوبة، بل هي منظومة فكرية ومادية متراكمة عبر قرون، وهي مع هذا كله حقيقة هوية وانتماء تقوم على مجموعة من المبادئ والنظم والقيم التي يتميز بها المجتمع.
أليس من الأفضل أن تركز هذه الحكومة أعمالها على البحث في مشاغل الناس الحياتية وما يعانونه من مشاكل مثل البطالة والإقصاء الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والفساد المالي والإداري عوض أن تهتم بمسائل هامشية لا علاقة لها بأهداف الثورة الحقيقية، ولن تجلب للمجتمع سوى مزيدا من الفرقة والنزاع والتشتت والفوضى بين مكوناته السياسية والاجتماعية؟ وهل هي من الاستحقاقات الوطنية التي يتوقَف عليها التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقضائي والتعليمي؟ أليست هذه إحدى القضايا المفتعلة مثْل غيرها التي تطرحها الحكومة ضمنا وعلانية من أجل إعلاء شأن هوامش الثورة على متونها؟
لقد سقطت قيمة هذه الخطابات والمواقف التابعة لها منذ أن أُنتُهكت مضامينها واهترأت ألفاظها فتحوَلت الحرية إلى عربون لبيع الوطن، وباسم الهوية تتمّ الدّعوة إلى الانفصال والتَناحر على صفحات الإعلام وفي حفل المبارزات الكلامية الفضائية وغيرها. ومشاهد البؤس في هذا الوطن مازالت كثيرة لا حدود لها و"العمل الذي ينتظرنا جميعا عظيم جدا بقدرما غفلنا عنه في الماضي وحتى الّسّاعة. فإذا لم ننتبه له اليوم جرفتنا الحوادث إلى هوة الموت غير مأسوف علينا"().
إنَ التفاعل مع الأنين المقدَس لـ"أهل الشَهداء والضَحايا" والمقهورين من أبناء الأرياف وسكان سفوح الجبال أصبح واجبا على الجميع بعيدا عن الغوغائية الاعلامية أو الأقلام التي تبثَ في ثنايا السَطور الدَعوة إلى "التخريب الصّامت" للوطن، والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد أو الاستخفاف بتاريخنا وحضارتنا العربية والإسلامية العظيمة والصامدة أمام هجمات الأعداء وتقلبات الأزمان والأحوال.
وهكذا المادة الوطن هويّة: تفاعلا مع خطاب رئيس الدولة حول المساواة في الميراث د. مصباح الشيباني
هذا هو كل المقالات الوطن هويّة: تفاعلا مع خطاب رئيس الدولة حول المساواة في الميراث د. مصباح الشيباني هذه المرة، ونأمل أن توفر فوائد لكم جميعا. حسنا، أراك في وظيفة أخرى المقال.
كنت تقرأ الآن المقال الوطن هويّة: تفاعلا مع خطاب رئيس الدولة حول المساواة في الميراث د. مصباح الشيباني عنوان الرابط https://notscrets.blogspot.com/2017/08/blog-post_629.html
0 Response to "الوطن هويّة: تفاعلا مع خطاب رئيس الدولة حول المساواة في الميراث د. مصباح الشيباني"
إرسال تعليق